اعلن مجلس شورى الدولة عدم موافقته على مشروع مرسوم زيادة الاجور، وفنّد في الرأي الصادر عنه تحت الرقم 23/2011 - 2012 بتاريخ 27/10/2011 المخالفات الكثيرة للقوانين المرعية الاجراء والاتفاقيات الدولية والعربية المصادق عليها في المجلس النيابي، التي انطوى عليها قرار مجلس الوزراء في هذا الشأن، وانتقد (ضمنياً) تجاوز الحكومة للتفويض المحصور المعطى لها، واعترض على التمييز بين الأجراء بحسب حجم أجورهم، رائياً أن صيغة زيادة الأجور المقررة تتناقض مع مبدأي المساواة والعدالة الاجتماعية المكرّسين في الدستور ومقدّمته. ويمثّل مضمون هذا الرأي القضائي «غير المتوقّع» ادانة واضحة للتسوية السياسية المتسرّعة التي افضت الى قرار زيادة الاجور عشية الاضراب في الثاني عشر من الشهر الجاري، كما يعدّ دفعة قوية جدّاً لمقاربة لجنة المؤشّر التي حملها وزير العمل شربل نحّاس ورفض مجلس الوزراء مناقشتها، ويشكّل كذلك اطاراً معنوياً داعماً لهيئة التنسيق النقابية عشية مؤتمرها العام المقرر عقده في الثلاثين من هذا الشهر بهدف اقرار خطّة للتحرّك التصعيدي، والذي ستشارك فيه النقابات العمّالية المعترضة على خضوع قيادة الاتحاد العمّالي لمصالح لا تمت بصلة لمصالح العمّال.
في مطلق الاحوال، سيترك هذا الرأي ندوباً واضحة على ثلاثة لاعبين معنيين، ساهموا، كل من موقعه ولأسبابه، في اجهاض المحاولة السابقة لفرض التصحيح المطلوب للنمط الاقتصادي من باب تصحيح الاجور:
- مجلس الوزراء، او اكثريته، الذي يصرّ على كبح اي محاولة اصلاحية، مهما كان نوعها، وذلك دفاعاً عن المصالح القائمة.
- هيئات اصحاب العمل التي فقدت سلاح التهديد بالطعن امام مجلس الشورى في اي مرسوم لتصحيح الاجور في القطاع الخاص بذريعة ان القوانين لا تجيز لمجلس الوزراء الا التدخّل لتحديد الحدّ الادنى للاجور فقط، اذ ان رأي مجلس الشورى جاء مغايرا.
- قيادة الاتحاد العمّالي العام التي انبرت في الايام الماضية للدفاع عن قرار مجلس الوزراء كما لو انه انتصار للعمّال على اصحاب العمل، في حين انه جاء مجحفا ولا يستند الى اي اساس علمي وموضوعي.
من جانبه، حسم مجلس الوزراء خياره، وقرر تعليق قراره السابق بزيادة الاجور عبر تأليف لجنة وزارية برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي وعضوية وزير العمل ووزير المال ووزير الاقتصاد والتجارة وذلك للتباحث في الاجراءات الواجب اتباعها بعد صدور رأي مجلس شورى الدولة، وقد جاء هذا المخرج بعد خلوة عقدها ميقاتي مع رئيس الجمهورية ميشال سليمان قبيل بدء جلسة مجلس الوزراء، وبعد تشاور الرئيس ميقاتي مع الوزير نحّاس، الذي شرح للوزراء مضمون الرأي القضائي واقترح العودة الى لجنة المؤشّر لمقاربة الملف مقاربة صحيحة.
امّا الهيئات الاقتصادية فقد غابت عن السمع، في حين ان رئيس الاتحاد العمّالي العام غسان غصن ادلى بتصريحات تتناقض مع تصريحاته السابقة قائلاً ان رأي مجلس الشورى يصبّ في مصلحة تصحيح الخلل في قرار مجلس الوزراء، متجاهلا انه وافق عليه سابقا واعلن تعليق الاضراب بذريعة انه جاء منصفا ومنسجما مع مطالبه.
اذاً، أصدرت الغرفة الادارية في مجلس شورى الدولة برئاسة القاضي شكري صادر وعضوية المستشارين زياد شبيب وريتا كرم القزي، رأيها المنتظر، بناء على طلب وزير العمل، وتضمّن هذا الرأي الملاحظات الآتية:
- إن الملف يخلو من الدراسات وجداول تقلبات الاسعار التي يجب أن يستند اليهما مرسوم تصحيح الاجور، بحسب ما تنصّ عليه المادة 6 من القانون الرقم 36/67. وإن اغفال الاستناد الى هذه الدراسات يجعل المرسوم، في حال صدوره، متخذا دون مراعاة الاجراءات الجوهرية.
- إن إعادة النظر في الحد الادنى الرسمي للاجور يجب ان تتم قانونا بصورة سنوية على الاقل وذلك تطبيقا لنص الاتفاقية العربية الرقم 15 لسنة 1983 بشأن تحديد الاجور وحمايتها، التي أبرمت بموجب القانون الرقم 183 تاريخ 24/5/2000، والتي أوجبت (في المادة 20 منها) أن تتم مراجعة الحد الادنى للأجور دوريا لفترات لا تزيد على سنة، وذلك لتواكب الاجور الحقيقية مستوى تكاليف المعيشة.
- ان المادة الاولى من مشروع المرسوم تعيد تاريخ نفاذ الحد الادنى الرسمي للاجر الشهري الجاري تعديله الى تاريخ 1/10/2011 أي الى تاريخ سابق لتاريخ نفاذ المرسوم عند صدوره. وان هذا النص يتضمن مفعولا رجعيا استقر رأي واجتهاد هذا المجلس على عدم الأخذ به لمخالفته مبدأ عدم رجعية القرارات الادارية.
- ان اعطاء الزيادة بالشكل المقترح في المادة الثانية المذكورة، (مبلغ مقطوع بقيمة 200 ألف ليرة او 300 ألف ليرة)، يخالف التفويض المعطى من المشترع (لمجلس الوزراء) بموجب المادة 6 من قانون 1967 لاسباب عدة هي:
¶ أولاً: لأنه يعطي زيادة على الاجور محددة بمبلغ معيّن من المال، في حين أن المقصود بالمادة 6 هو تحديد نسبة غلاء المعيشة وتحديد كيفية تطبيقها.
¶ ثانياً: لأنه يستثني فئة من العمال والمستخدمين الذين تزيد أجورهم الشهرية على مليون وثمانمئة الف ليرة، من أي زيادة، في حين أن غلاء المعيشة هو مسألة واقعية يفترض أنها تطاول جميع المستخدمين والعمال، مع الاخذ في الحساب طبعاً أن الحاجة الى الزيادة لا تكون نفسها بالنسبة الى الجميع، ويمكن ان تعطى بطريقة تحقق قدر الامكان العدالة الاجتماعية.
¶ ثالثاً: لأن الزيادة على غلاء المعيشة المقترح اضافتها في المادة الثانية من مشروع المرسوم تقضي بتقسيم الاجراء الى فئات بحسب حجم أجورهم، بدلا من تجزئة الاجور نفسها الى شطور كما فعل المرسوم الرقم 8733/1996، ما يجعل الزيادة فاقدة لصفة الموضوعية والتجرد ومتناقضة مع مبدأ المساواة بين المواطنين المكرس في الدستور ومع العدالة الاجتماعية التي نصت عليها مقدمة الدستور.
- إن تدخل السلطة التنفيذية لأجل تحديد أو تعديل بدل النقل اليومي للمستخدمين والمنح المدرسية عن أولادهم، يخرج عن نطاق التفويض المعطى لها من المشترع بموجب المادة 6 من القانون الرقم 36/67. ويدخل في نطاق ممارسة حرية التفاوض الجماعي La liberté de négociation collective التي كفلتها اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن تحديد الحد الادنى للاجور لسنة 1970، كما يدخل ايضا في إطار ممارسة حرية التعاقد التي كفلها الدستور.
- إن المادة الرابعة (في مشروع المرسوم) في غير محلها للاسباب الآتية:
¶ لأن حق صاحب العمل في إنهاء عقود العمل الجارية في مؤسسته وفقا لأحكام قانون العمل مشروط أصلا باتباع الاجراءات المحددة في الفقرتين (و) و(ز) من المادة 50 من القانون المذكور. وإن التشديد على المنع بالطريقة التي وردت هو من باب لزوم ما لا يلزم.
¶ لأن وقف الصرف حتى انتهاء المشاورات ووضع البرامج النهائية المنصوص عليها في الفقرتين (و) و(ز) من المادة 50، يخالف أحكام هذه المادة ويضيف الى هذه الاحكام قيداً لم يشأ المشترع أن يقيد أصحاب العمل به.
الجدير بالاشارة ان وزير العمل وضع في مشروع المرسوم نصاً (المادة الرابعة) يمنع صاحب العمل من إنهاء اي من عقود العمل الجارية في مؤسسته بسبب أو بنتيجة أو في سياق تطبيق احكام هذا المرسوم من دون التقيد بأحكام الفقرتين (و) و(ز) من المادة 50 من قانون العمل، فيتوقف الصرف حتى انتهاء المشاورات ووضع البرنامج النهائي المنصوص عليهما قانوناً. وعلى صاحب العمل أن يثبت لوزارة العمل عدم تعلق أية عملية صرف يقوم بها خلال فترة سنة من تاريخ نشر هذا المرسوم بتطبيق أحكامه.
طبعاً، أراد الوزير نحّاس أن يقيّد حرّية صاحب العمل في صرف الاجراء لأسباب تتعلّق بقرار تصحيح الاجور، ومع أن مجلس شورى الدولة وافق على هدف هذه المادّة، فقد اعتبر انها تنطوي على تعديل لقانون العمل، وهو ما لا يمكن حصوله بموجب هذا المرسوم.



مشروع المرسوم

سعى وزير العمل، شربل نحّاس، في مشروع المرسوم الذي أحاله الى مجلس شورى الدولة الى حشد كل البناءات القانونية التي يمكن استخدامها لتبيان مدى مخالفة قرار مجلس الوزراء للأسس والمعايير الناظمة لعملية تعيين الحد الأدنى الرسمي لأجور المستخدمين والعمال الخاضعين لقانون العمل ونسبة غلاء المعيشة وكيفية تطبيقها، فأبرز 9 بناءات تتضمن الدستور وقانون العمل والقانون الرقم 36/67 واتفاقيات منظمة العمل الدولية (113) ومنظمة العمل العربية (15) المبرمة وقانون الضمان الاجتماعي... وخلص الى صياغة مشروع مرسوم يتماشى مع قرار مجلس الوزراء بإعطاء زيادات مقطوعة على الأجر وبدلات النقل والمنح التعليمية، إلا أنه يسعى الى تصحيح بعض اختلالاته، وهو ما يشمله رأي مجلس شورى الدولة بالرفض.
فقد وضع نحّاس في مشروع المرسوم بعض المواد التي لم ترد في قرار مجلس الوزراء، فجاء في المادّة الخامسة «يعتبر بدل النقل عنصراً من عناصر الأجر وتدفع عنه الاشتراكات المتوجبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ويدخل في احتساب تعويض نهاية الخدمة. وللمؤسسات التي تؤمن لأجرائها وسائل النقل أو المنامة أن تستوفي من الأجراء الذين يرغبون في الاستفادة من هذه التقديمات بدل كلفتها».
وتُعتبر هذه المادّة منسجمة مع رأي مجلس الشورى لكونها تنطوي على دمج لبدل النقل بالأجر، وبالتالي يصبح متاحاً تصحيح قيمتها انطلاقاً من تصحيح قيمة الأجر برمّته.
كذلك وضع المادة السادسة (من دون أن يتضمنها قرار مجلس الوزراء) التي لم يرفضها مجلس الشورى، وهي تنص «عند تصفية حساب المضمون في صندوق نهاية الخدمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تضاف على الاشتراكات المدفوعة عوائد الفائدة المنصوص عليها في المادة 54 من القانون الرقم 13955 تاريخ 26/9/1963 المعدل (قانون الضمان الاجتماعي). وعلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أن يحدد معدل هذه الفوائد لكل من السنوات الماضية في مهلة شهر من تاريخ نشر هذا المرسوم على أساس الفوائد المحصلة على توظيفات الصندوق التي حصلت وفق قواعد السوق الحرة، وإلا احتسبت الفائدة من قبل مصرف لبنان، على أن تساوي معدل الفوائد السوقية المعمول بها في توظيفات محفظة المصارف في سندات الخزينة».
(الأخبار)